في صباحٍ عادي من صباحات الصيف، خرجن بحثًا عن لقمة العيش. حملن أحلامهن البسيطة على أكتاف صغيرة، ومضين إلى الحقول في صمتٍ وكأن القدر كان يخطّ مصيرهن الأخير. لم تكن أيٌ منهن تعلم أن تلك الرحلة ستكون الوداع الأخير، وأن عجلة الحياة ستتوقف فجأة على الطريق الإقليمي في محافظة المنوفية.
زهور في عمر الزهور
19 فتاة من قرية "كفر السنابسة"، وهنّ في عمر الزهور، لم يبلغن العشرين بعد، خرجن منذ ساعات الفجر إلى العمل في جمع العنب بأحد الحقول الزراعية. لم يكنّ يحملن أحلامًا كبيرة، ولم يكنّ يبحثن عن الثراء أو المجد، بل كنّ فقط يسعين وراء بضعة جنيهات يعودن بها إلى أمهات ينتظرن، وآباء يشتكون همّ الدهر.
الفتيات كنّ يعملن مقابل أجر يومي لا يتعدى 130 جنيهًا. في هذا الحر، وفي هذا السن الصغير، كنّ يتحملن مشقة العمل، وظروف المعيشة القاسية. لكن ما لم يكنّ يحتملن، وما لم يخطر ببال أحد، هو أن تُغلق أعينهن إلى الأبد في لحظة واحدة، بلا وداع، بلا سابق إنذار.
المأساة على الطريق
على الطريق الإقليمي أمام قرية مؤنسة التابعة لمركز أشمون بالمنوفية، كانت الساعة تقترب من السابعة صباحًا حين وقع الحادث المأساوي. تصادمٌ مروّع بين سيارة "ميكروباص" كانت تقل الفتيات، وشاحنة نقل ثقيل (تريلا). تصادمٌ عنيف أنهى حياة 18 فتاة على الفور، إضافة إلى سائق الميكروباص. تحولت السيارة إلى حطام، وتناثرت الأجساد على الأسفلت، فيما عمّ الصراخ المكان، وصمتت الحياة.
المشهد كان مفزعًا، لم يتحمّله من رأوه. شهود العيان أكدوا أن الشاحنة كانت تسير بسرعة جنونية، وأن التصادم كان مفاجئًا لدرجة أن السائق لم يتمكن من المناورة أو إنقاذ الأرواح. البعض قال إن الميكروباص كان يقف قليلاً على جانب الطريق، والبعض الآخر ذكر أن التريلا انحرفت عن مسارها. لكن في النهاية، النتيجة كانت واحدة: أرواح بريئة صعدت إلى السماء.
صدمة في القرية
عندما وصل الخبر إلى قرية كفر السنابسة، كان الأمر أشبه بزلزال ضرب المكان. صراخ الأمهات ملأ الشوارع، وأجواء من الحزن خيّمت على كل منزل. فجأة، تحولت القرية إلى مأتمٍ مفتوح. لم يكن هناك بيت إلا وخرج منه النواح. 19 بيتًا فقَدُوا أبناءهم في لحظة واحدة. دموعٌ لا تتوقف، وألمٌ لا يُوصف.
خرج الأهالي إلى المستشفيات بحثًا عن بناتهم، بعضهم لم يجد جثمان ابنته بسهولة، فعدد من الفتيات لم يكن يحملن بطاقة هوية. المشرحة لم تستوعب الجثامين، وتم نقل البعض إلى أكثر من مستشفى، في أشمون وقويسنا والباجور وسرس الليان. كانت هناك حاجة لفريق كامل من الأطباء والممرضين للمساعدة في استقبال الأجساد، وبعضهم لم يتم التعرف عليه إلا من خلال الملابس أو ملامح بسيطة.
من المسؤول؟
السؤال الذي ظل يطارد الجميع: من المسؤول عن هذه الكارثة؟ هل هو السائق؟ هل هو الطريق؟ هل هي الحكومة؟ أم أن الفقر وحده هو الجاني الحقيقي؟
الطريق الإقليمي معروف بخطورته، ويشهد حوادث كثيرة. بعض الأهالي يقولون إن الطريق غير مؤهل، والبعض يلومون سرعة الشاحنات الثقيلة التي تمر دون رقابة حقيقية. وهناك من يقول إن السبب الحقيقي هو غياب الفرص، لأن الفتيات ما كنّ ليخرجن للعمل في هذا السن وفي هذا الطقس القاسي، لولا العوز والحاجة.
تداول رواد مواقع التواصل الاجتماعي صور الفتيات ونعوهم بكلمات حزينة. انتشرت صورهن بزي العمل، وصور الميكروباص المحطم، ومعها دعوات للمحاسبة والتحقيق. الجميع تساءل: لماذا لا يتم تنظيم هذه العمالة اليومية؟ لماذا لا توجد وسائل نقل آمنة لهن؟ لماذا لا تُفرض رقابة على حركة النقل الثقيل؟
استجابة الدولة
بعد وقوع الحادث، تحركت الجهات الأمنية فورًا. تم القبض على سائق الشاحنة، وفتحت النيابة العامة تحقيقًا موسعًا. كما تم تشكيل لجنة هندسية لمعاينة موقع الحادث وتحديد السبب الحقيقي للتصادم.
من ناحية أخرى، وجّه وزير العمل محمد جبران بصرف تعويضات عاجلة لأسر الضحايا. حيث تقرر صرف 200 ألف جنيه لكل متوفى، و20 ألف جنيه لكل مصاب. كما أمر محافظ المنوفية اللواء إبراهيم أبو ليمون بتقديم الدعم النفسي والمعنوي للأسر المنكوبة، ووجه بتوفير سيارات إسعاف لنقل الجثامين ودفنها في مقابر القرية.
لكن، وبالرغم من سرعة الاستجابة، يبقى الألم أكبر من أي تعويض. فماذا تفعل أمٌّ فقدت ابنتها؟ وماذا يفعل أبٌ شاهد ابنته مغطاة بكفن أبيض وهي في ربيع عمرها؟ كيف يعود الإخوة إلى منازلهم دون الأخوات اللواتي كنّ يملأن المكان بالحياة والضحك؟
وجع لن يُنسى
حادث بنات المنوفية لن يُنسى بسهولة. هو ليس مجرد رقم يُضاف إلى قائمة حوادث الطرق في مصر، بل هو جرحٌ في قلب المجتمع. هو ناقوس خطر ينبه الجميع إلى ضرورة إعادة النظر في أوضاع العمالة اليومية، وفي منظومة الطرق والنقل، وفي قيمة الإنسان البسيط الذي يُترك لمصيره بلا حماية.
هذه الفتيات لم يكنّ مجرمات، ولم يرتكبن خطأً، بل كنّ عاملات بسطاء خرجن فقط للبحث عن قوت اليوم. ذهبن في الصباح ولم يعدن، وكأن الأرض بلعتهن، وكأننا في عالم لا يحمي الضعفاء.
وحتى اليوم، لا تزال القرية تبكي فتياتها، ولا تزال الجنازات تخرج تباعًا، ولا تزال قلوب الأمهات تنزف. ووسط كل هذا، يبقى سؤال عالق في الأذهان: هل ستتكرر هذه المأساة مرة أخرى؟ وهل ستبقى دماء بنات المنوفية مجرد خبر عابر في نشرات الأخبار؟ أم سيكون هناك تحرك حقيقي يحمي من تبقّى؟